لقد دفع مجمل التغيرات والتناقضات التي يعيشها مجتمعنا العراقي العديد من المندائيين العراقيين الى إعادة النظر بشكل انتقادي في المفاهيم القديمة حول المثقفين ودورهم الايجابي في حركة المجتمع ، فهم الآن لا يمثلون مجتمعا خاصا قليل العدد متجانسا اجتماعيا ومنفصلا عن دورة الإنتاج المادي والفكري، لان ممثليه يمارسون المهنة او العمل الذهني الصرف كل على انفراد. اذ اندثرت مفاهيم تقليدية كثيرة حول المثقفين وانعزالهم في أبراجهم البعيدة عن الناس وهمومها وتطلعاتها. المثقفون اليوم باعتبارهم أمناء للحقيقة ومثل العدالة ومدافعين عن مصالح الذين حرموا من حق الكلام، لا زالوا يعيشون بيننا ويربطون بين نشاطهم المهني والنضال، في سبيل التقدم الذي نسعى اليه جميعا.
والمندائيون يعتزون بان عدد من مثقفيهم لا زالوا يمثلون إحدى رموزهم ورموز مجتمعهم الروحانية التي لا تنقرض، من خلال أفكارهم وطروحاتهم وعملهم النضالي الدؤوب، الذي لا يزال الى يومنا هذا مؤثرا في العلاقات المتبادلة بين أبناء الطائفة بشكل خاص والشعب العراقي بشكل عام. وعميد المثقفين المندائيين الأستاذ عزيز سباهي الذي انخرط منذ صباه في العمل النضالي والفكري، هو نموذج الإنسان البار الذي مثل ايجابية الموقف مع نتاج الفكر، حارب كل اغواءات الحلول الفردية ومغريات مؤسسات السلطات الرجعية البائدة، التي عملت على تحطيم وتشويه الإنسان العراقي، ودفع ثمنا لأفكاره سجنا وتجويعا وتشردا، من اجل ان لا تزاحم الإنسانية شريعة الغاب، ومن اجل ان لا يتم التلاعب في قيمة الإنسان .
هذا الإنسان، المفكر، المناضل، النموذج، ظل حتى يومنا هذا يطالب بان تكون الثقافة بنهوضها وآفاقها الرحبة بكل عناصرها المترابطة ، مسخرة للإنسان، وان تأخذ زمام مصيره وتاريخه العام بيديه، وان تكون جميع روافدها في خدمته، وان تؤخذ بالاعتبار جميع جوانب الحياة الثقافية المتعلقة بالعلم والتقنية والفن والرياضة والأخلاق وتربية المواطنة والسياسة. لقد عكس هذا الإنسان البار بكل معاركه ونشاطاته ومواقفه وفصاحته، في ظروف الانحطاط الفكري التي سادت العراق او خلال هوامش العمل الديمقراطي والانفتاح، مفهوم المثقف الذي لا ينفصل عن نصير الآراء التقدمية بكل جلاء.
بمناسبة استحداث باب" أعلام مندائية " في موقعنا، كان لنا شرف استضافة أستاذنا عزيز سباهي الذي تقدم بإجابته مشكورا حول العديد من الأمور التي يمر بها عراقنا في المرحلة الراهنة وحول مواقفه الدينية والفكرية ورؤيته لآفاق الوجود المندائي.
كيف توفق بين التزامك الشيوعي وانتمائك الديني المندائي حيث اصدرت كتابا اعتبر من اهم المصادر الحديثة عن تاريخ ومستقبل هذه الديانة العريقة، بالمقابل عملك الحالي في انجاز الجزء الثالث من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي؟
لقد تربيت في المناطق الريفية في جنوب العراق في وسط ديني. كيف استطعت ان تخرج شيئا فشيئا من هذا الوسط وتصبح كاتبا ماركسيا؟
هل لا زلت تعتقد بان الفكر الماركسي لازال صالحا لاصلاح الواقع العراقي?
إذا سمحت, سأجيبك على تساؤلاتك هذه مرة واحدة, وكلها تدور كما ترى حول جمعي مابين الأنتماء الى المندائية واعتناق الماركسية في آن واحد, وما تولد عن هذا من اهتمامات في ميداني الفكر والسياسة.
في البدء أود أن أشير الى انني حين انخرطت في صفوف النضال الشيوعي في العراق إبان السنوات الأولى من أربعينات القرن الماضي, لم أكن يومها قد تعرفت على جوهر الفكر الديني, مثلما, في المقابل لم أكن قد الممت بالماركسية بعد, كفكر. ولكل من الأمرين أسبابه. فلا الوسط الديني الذي نشأت فيه كان بوسعه ان يقدم الأجابات الواضحة والمقنعة لجيلنا من الشباب, الذي كانت المعارف التي يتلقاها في المدارس (ويومها لم تكن الصحافة او وسائل الأعلام الأخرى قد دخلت بيوتنا بعد) تفتح امامه آفاقا لا تسعفه بيئته العائلية البسيطة بتفسيرات مقنعة من جانبها. بالمقابل لم تكن المكتبة العراقية تزوده بما تطرحه الماركسية من تفسير للمشكلات التي تواجه هذا الجيل الا في النادر. وكل ماكان هنالك لايتعدى افكارا وطنية صيغت لتوضيح المهمات الوطنية التي تنطرح امام الشباب من وجهة نظر الحزب الشيوعي العراقي.
هذا اولاً, ما اود التنبيه اليه ثانياً, هو انني انحدرت عن عائلة صابئية معدمة حقا, فقيرة الى حد البؤس, الى الحد الذي يدفعني الى التساؤل بحيرة: كيف ياترى استطاعت هذه العائلة, مع كل هذا, ان تدبر امر إعالة خمسة اطفال؟ هذا من جانب (وهو بحد ذاته كما ترى يدفع بالشباب الى الإحتجاج والنضال) من الجانب الآخر فالصابئة في العراق سابقا وراهنا يواجهون نوعا من الإضطهاد, خفي احيانا, ومكشوف أحيانا اخرى, من المجتمع وحتى من السلطات التي يفرزها هذا المجتمع. إضطهاد ماكر, ايديولوجي ومادي, لا يقر لهم بالمساواة, رغم انهم لايقلون عن اقرانهم بشئ, ان لم يتفوقوا أحياناً. وكان لابد لهذه الحال ان تدفع بالشبيبة المندائية الى البحث عما يعينها على الخلاص, ويحقق لها طموحها في المساواة, وهو, كما ترى بحث مشروع. وكان منطقيا ان يتجه الشباب, ومنهم المندائيون, الى الحزب الشيوعي العراقي بالتحديد، ليس لصدقه في مايفعل وحسب، وإنما لكونه يشرع ابوابه أمام أبناء الشعب، دون ان يضع أمامهم اية قيود أو اشتراطات، قومية او دينية او عشائرية او جاه... الكل يجد فيه متسعاً رحباً للتعبير عن هموم جماعته, والكل يتساوى فيه ويتآخى فيه مع الآخرين, ويتصدر صفوفه من هو أهل لذلك, بغض النظر عن كل الفوارق التي اتينا على ذكرها.
ومع الزمن, وتنامي المعارف وخبر الحياة والتجربة النضالية, بات يتضح لي ما خفي من افكار كلا الأنتمائين في بادئ الأمر, المندائي والماركسي. ولاأكتمك, إن هذه التجربة في كلا جانبيها لم تخل من قصور في الفهم, وتشنج في التعامل ومن نزعات الطفولة اليسارية احيانا. لا أزعم انني غدوت أمتلك من كلا الأمرين ناصيته الآن. وعسى ان تمتد بي الأعوام قليلاً لأشبع بعضاٍ من فضولي في فهم العلاقة أكثر بين الأنتمائين, تحقيقا للحكمة الصابئية المندائية: "ويل لعالم لا يمنح من علمه, وويل لجاهل منغلق على جهله". والحقيقة أقول: إنني كلما إزددت وعيا بما تعانيه هذه المجموعة الصغيرة من الناس, إزددت يقينا بالحاجة الى الإقتراب منها, والسعي للأخذ بيدها لكي تتلمس سبيلها الى الإنعتاق مما تكابده من مرارات.
قبل بضع سنوات كان لي لقاء مع جمع من المندائيين وبعض المثقفين من غيرهم في السويد في محاضرة, وضعت لها عنوان غير مألوف: "الأشتراكيــة والحلــم المندائــي". يومها قال قائل إنني أمارس دعاية سياسية. لكنني كنت يومها, ولا أزال, أؤمن حقا بما قلته. ظل الصابئة المندائيون ولقرون طويلة يعيشون في بيئة منعزلة يسودها إقتصاد المقايضة. يحلمون بالمساواة والحرية... حتى إذا زحفت نحوهم العلاقات الرأسمالية الحديثة, بدأوا يواجهون وضعاً صعباً... تكيفوا له حقاً بما عرف عنهم من طيبة ومسالمة ومثابرة, لكنهم باتوا يواجهون خطراً جديداً هو إنحلالهم كطائفة ذات معتقدات خاصة. وفي المهجر تحولوا, وسيتحولون ولاشك, الى ما يشبه الأيقونات في المتاحف... تحتاجهم دوائر الدراسات اللاهوتية كعينات حية لدراسة ماض سحيق من الصراعات الدينية... ولهذا لن يجدوا هنا, ايضا, متسعا رحبا لتحقيق أحلامهم كما علمتهم إياها معتقاداتهم. إن ابرز ما تؤكده العقائد المندائية تأكيدها على الجمع ما بين التطلع الى العلم, والحث على العمل. حتى الإنسان الراهن يعجب حقا بما تسعى المندائية الى تقديمه في تفسير ظهور الكون وخلق الإنسان الراهن والإنتقال به من عالم الحيوان والظلام الى دنيا النور ورحاب المعرفة الإنسانية, وتأكيدها على التآخي والسلام ما بين الناس. إن حكمتهم ترى ان أسمى ما يسعد به الصابئي هو احترام الناس: "رأس غبطتـك ان تحتـرم النــاس" التعاليم المندائية تؤكد على التعامل النزيه مع الناس وتحرم القتل وتقف ضد الحروب وتدعو الى السلم والى الإبتعاد عن الركض وراء المال واكتناز الذهب والفضة, وتنادي بالمساواة الكاملة بين الجميع وبين حقوق الرجل والمرأة. أليس في كل هذا ملامح من العدالة والمساواة التي تدعو لها الإشتراكية؟
لقد دعا ماركس الدين "زفرة المحرومين", فأي تناقض, اذن, بين ان تدعو الى إنعتاق المحرومين (ومنهم المندائيون), وان تدلهم على الدرب الذي يضمن لهم هذا الإنعتاق! واي تناقض بين أن توفر لهؤلاء المحرومين فرصة التنفيس بالزفرة عما يضطرب في صدورهم الى جانب العمل من أجل خلاصهم من عوامل الأضطراب هذه! لعل من أجمل معالجات الماركسيين في هذا الشأن ما كتبه فردريك أنجلز, رفيق ماركس, عن نضال المسيحيين الأوائل لنشر المسيحية بين اواسط الأرمن وغيرهم في آسيا الصغرى, ونضال الإشتراكيين في مساعيهم الأولى لنشر أفكارهم في أوربا.
لقد كان منطقياً أن يتوصل القدامى, مع قصور ادواتهم المعرفية الى فهم العالم الموضوعي الذي يحيط بهم على نحو ما توصل اليه الأنسان في قرونه المتأخرة, وبالتالي عجزهم عن تبين السبل التي تحررهم من تشابكات العالم وصراعاته. لقد تناول ماركس الدين تناولا موضوعيا كشكل من اشكال الوعي الأنساني كأديولوجيا برزت وانتشرت في ضروف وبيئات معينة... لكن نقده إنصب على المؤسسة الدينية التي جعلت من نفسها ومعارفها أداة للتبشير بما يخدم خضوع عامة الناس المستضعفين الى مشيئة المالكين والحاكمين. ولاتنسى أننا ورثنا ما صور لنا المحتلون البريطانيون عن الشيوعية, والا فقادة العراق الأوائل الذين حاربوا الأنجليز كان لهم رأيهم المعاكس تماما بالبلاشفة ولينين. ولأن المندائية توظف معتقداتها في خدمة عامة الناس وليس السلاطين, وتؤكد على معتنقيها بالأبتعاد عن السلاطين, كان هذا هو ما قربها من المفكرين العرب الأسلاميين الذين عرفوا بنزعاتهم المتحررة كالفيلسوف ابو بكر الرازي او الشاعر المفكر ابو علاء المعري.
هل لا زلت تعتقد بان الفكر الماركسي لازال صالحا لاصلاح الواقع العراقي ؟
هناك من يقول لنضع صورة ماركس الى جانب صور العديد من مفكرينا العرب والعراقيين لرؤية المستقبل ما هو رايك بمثل هذه الطروحات؟
دعني اصارحك القول في ضوء الفوضى الشاملة والتخبط الذي يجري في الواقع العراقي, وغابة الشعارات التي تذهب الى حد التعارض احيانا, أعتقد ان لا سبيل الى الخروج الى بر الأمان وأكتشاف السبيل الذي يؤدي الى التقدم, الا بامتلاك المنهج التحليلي الذي دعا اليه ماركس لفهم هكذا واقع, وتبين العوامل التي تدفع الى إضطرابه, والمصالح التي تحرك هذه او تلك من المجموعات والوجهات التي تؤدي اليها حركة هذه او تلك من المجموعات, وموقعها من الحركة العامة للمجتمع. "إن ماينطرح الآن ليس بناء الأشتراكية"
الواقع العراقي في حاجة الآن الى ما يوضح طبيعة الصراعات الجارية, والى ماينزع عنها أرديتها الأيديولوجة للكشف عن المصالح الطبقية التي تحركها, وتمييز تلك التي تدفع الى تقدم المجتمع. إن ماينطرح الآن ليس بناء الأشتراكية. لكن ماركس لايحدثنا عن هذا وحده, وانما هو يدلنا على السبيل الذي يفضي الى القضاء على كل أشكال الأضطهاد, الطبيقي والقومي والديني والأستعماري... وحين تضطرب الأمور وتغيم المقاصد وراء مختلف الشعارات, ولا تعود الطبقات الفقيرة و المسحوقة والجماعات الدينية والإثنية المضطهدة تتبين طريقها في هذا الجو المتلاطم, يبرز الفكر الماركسي كدليل يقود الى السبيل الذي يعبر عن مصالح الفقراء والمضطهدين وشغيلة الفكر.
بعد انهيار المنظومة الأشتراكية في اوربا الشرقية ترآى للكثيرين ان صفحة الماركسية قد انطوت... واليوم, وبعد ان مر مايزيد عن عقد من السنين على ذلك الزلزال الكارثة تبينت كثير من الدعوات... وبات كثير من الذين ناصبوا الأتحاد السوفيتي العداء يندمون على مافات. لكن ملايين من البشر تعود الى ماركس من جديد وتقرأه بعيون فاحصة في ضوء واقعها الحي الملموس, وتتلمس منه سبيلها الى المستقبل الأفضل, وليس التباكي على "الماضي السعيد", وتتلمس منه العون للخروج من مشاكلها الأجتماعية والأقتصادية. إن عراق اليوم, ليس في حاجة الى لطم الخدود على ماض ولى, وإنما هو في حاجة الى إكتشاف سبيل المستقبل. وفي ظل المساعي التي تبذلها الأحتكارات الأجنبية, متدرعة بعدة العولمة اللبرالية وآلياتها ومؤسساتها للأستحواذ على خيراته, فان الشعب العراقي أكثر من أي وقت مضى في حاجة الى إستشارة ماركس من جديد وبعين فاحصة ومدققة, كما قلت, في ضوء واقعة الملموس.
هل تجد ثمة علاقة بين الدين المندائي ونزعتك المادية؟
كيف توفق بين نزعتك الماركسية واهتمامك بالدين المندائي وكتاباتك ومحاضراتك المستمرة عنه؟
المسيحيون والمندائيون بدأوا يهربون من موطنهم العراق بفعل تصاعد حدة الاضطهادات التي شملت القتل والاغتصاب ومطالبتهم بدفع الجزية من قبل عصابات دينية متطرفة. ما هو رأيك بعملية النزوح هذه وهل تعتقد بانها ستكون مؤقتة؟
لا احسب أن اي عراقي, غيوراً على وطنه وشعبه وتراثه ومستقبله لا يقلق للحال التي يتعرض فيها كثيرمن المسيحيين والصابئة للألوان من التضييق والإضطهاد, بما فيها القتل والإغتصاب والإبتزاز, مما يدفع بالعديد منهم الى البحث عن الأمان في الهجرة الى خارج البلاد. وأنا الذي عانيت, ولا أزال من الغربة منذ ما يزيد عن ربع قرن, أدرك بمرارة, ما يعنيه التشرد والهجرة. من المؤسف, حقا ان ابناء العراق الأوائل, أعني بهم الصابئة والمسيحيين, أحفاد بناة الحضارة العراقية القديمة والذين عاشوا وعمروا بلاد الرافدين, قبل ان يدخلها العرب والمسلمون, يرغمون اليوم على الهجرة عن وطنهم. ان من حق المرء ان يتساءل بأي وجه حق تسمح عصابات تدعي الأسلام, لنفسها ان ترغم أبناء البلاد الأصليين على ترك وطنهم تحت طائلة التهديد بالقتل. ويجري كل هذا في القرن الحادي والعشرين؟ ثم اليست هذه العصابات تخالف بهذا الشرع الذي تدعيه, وهو الذي خاطبهم بقوله "ان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"؟ ولماذا تسكت المرجعيات الدينية, الشيعية بالذات عن هذا التجاوز على الشرع, وعلى القوانين, وعلى شرعة حقوق الأنسان؟ وهل هذه العصابات اعلى نسبا وأشرف قدرا وأكثر إدراكا ومعرفة من امامي الطالبيين, الشريف الرضي والشريف المرتضى, حين حزنا اشد الحزن على الكاتب الوزير أسحاق ابن هلال الصابئي وحين رثياه بأجمل المراثي؟
أنا أدعو كل القوى الخيرة في المجتمع على اختلاف مشاربها, لاسيما اليسار الديموقراطي ان تقف بقوة اكبر في وجه مايتعرض له الصابئة والمسيحيون من إضطهاد, إن كانت تحرص حقا على إشاعة الديموقراطية في البلاد واطالب الأحزاب السياسية والصحافة والمنابر الأعلام كافة, لاسيما الشيعية ان تجاهر بمعارضتها هذه الممارسات, والتصدي للعصابات التي تمارس التنكيل بالمواطنين الأبرياء وإيقافها عند حدها.
في الجانب المقابل, أقول لأخوتي وأخواتي المسيحيين والصابئة الذين ينشدون الهجرة عن الوطن للخلاص مما يكابدون, ان الهجرة لن تحل المشكلة. فسيتعرض غيرهم للمحنة وان السبيل الوحيد للوقوف في وجه هذا الأجرام هو النضال ضده, ومشاركة من يكافح من اجل الديموقراطية في سعيه. ان هجرتهم قد تضمن سلامتهم, وقد توفر لبعضهم عيشا افضل... لكنها ستولد متاعبها المقابلة, وستولد وضعا يجر غيرهم الى الهجرة حتى وان لم يرغبوا فيها, ولم يتعرضوا الى مايدفعهم اليها.
ما هو رأيك بالدعوات الجديدة للثقافات العراقية المتعددة الاخرى التي تطالب بازاحة هيمنة مظلة الثقافة العربية قليلا لتجد هذه الثقافات, هي الأخرى, وجه النور الذي حرمت منه لعقود طويلة؟
دعني اولا, اشير الى ان لهيمنة الثقافة العربية في العراق عواملها التاريخية الطويلة, اذ تولدت من هيمنة العرب والإسلام على مقدرات البلاد طوال حقب طويلة ظل فيها الأقوام من غير العرب, ومن غير المسلمين يتعرضون الى التضييق والى الأضطهاد وفي ظل هذه الهيمنة الطويلة فرضت اللغة العربية نفسها لا في ميدان الثقافة وحدها, وإنما في التعامل اليومي والحياة الأجتماعية عامة. لقد تمثل العرب المسلمون ثقافات الأقوام الأخرى التي كانت سائدة في البلاد قبل احتلالهم وكسوها برداء من الأيديولوجيا الأسلامية, مضيفين لها ما ابدعوه هم واعادوا فرضها على المجتمع. وبات على المثقف من غير العرب المسلمين ان يسايرهم في هذا وإلا فأنه ينتهي الى زاوية النسيان ويتوارى. وهكذا انمحت شيئا فشيئا لا الثقافات الخاصة بأقوام العراق الأولى, ومن بينهم الصابئة المندائيون والكلدانيون والآشوريون وحسب, وإنما انمحت ايضا المعالم القومية الأخرى أساسا وباتوا يحسبون في عداد العرب. واضحى على علماء الأثار ان ينقبوا عن ادابهم في مكتبة آشور بانيبال وغيرها. وفي كتب المندائيين يشار في مواضع عديدة الى فنونهم الموسيقية التي ما عاد لها اثر اليوم.
ان ازاحة هيمنة الثقافة العربية, ولو قليلا كما تقول لن تتم بمرسوم واذا شئت الحق فأن الثقافة العربية هي الأخرى باتت تعاني من سلطان الذهنيات المتخلفة التي تدفع بها الى التحجر, وكذلك مما تحمله العولمة الليبرالية من وافدات... وليس غير الديموقراطية الحقة من علاج. وفي ظني ان الأبداع في جو ديموقراطي بحق, هو وحده ما يفرض التعدد والأزدهار في الثقافة بما في ذلك ثقافة الأقليات... ولنتمثل, بعد هذا بالقول الصيني: "دع المئة زهرة تتفتح!"
انصب جهدك خلال السنوات الاخيرة على كتابة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي فاصدرت جزئين وانت تعمل على الجزء الثالث. ماهو الفرق بين كتابك وكتاب الراحل حنا بطاطو عن تاريخ هذاالحزب؟
عديدون هم الذين سألوني عما يميز كتابي (عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي) عن ما اورده الأستاذ الراحل حنا بطاطو في كتابه (الطبقات الأجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق) الذي صدر عن جامعة برينستن بالأنجليزية عام 1978 وترجم الى العربية بعنوان (العراق). واذا كان بعضهم خشي التماثل بين العملين فأن الأستاذ بطاطو ذاته قد عبر لي عن ترحيبه بمشروعي, وابدى استعداده لقراءة المسودات وابداء ملاحظاته. ولكن لسوء حظي ان يرحل قبل ان يتحقق له ما اراد. على انني اذكر تأكيده على اهمية ان يبادر الشيوعيون العراقيون ذاتهم الى كتابة تاريخهم, فأبناء مكة ادرى بشعابها. ثم ان بطاطو يتحدث عنهم حتى منتصف السبعينات في ما يتواصل عملي الى عقدين تاليين, جرت فيها أحداث خطيرة واذا كان هو قد نظر الى الأمر من خارجه فانا انظراليه من داخله واتابع حركته الداخلية بما لايتسع للمراقب الخارجي ان يتابعها وستتيسر لقارئء العملين فرصة الجمع بين النظرتين ليحصل منهما على الرؤية الأدق.